وقبلَ التوّجِهِ إلى ما رَدَّ بِهِ جلجامشُ بعدَ ذلِكَ على عشتارَ نتوقّفُ قليلاً لشرحِ هذِهِ الحالةِ المتناقضةِ في العلاقةِ مَعَ الحياةِ في ذهنِ العراقيِّ القديمِ.
إذ يبدو لنا أنَّ الموضوعَ الدّاخليَّ أو الباطنيَّ للملحمةِ هو (تناقضاتُ الوجودِ)، وَلِذَلِكَ فهي من هذِهِ الجهةِ أقدمُ نصٍّ تاريخيٍّ يتحدّثُ عن الجدلِ أو الديالكتيكِ العامِّ في الوجودِ سابقةً بذلكَ على كلِّ تفكيرٍ فلسفيٍّ آخرٍ.
ولكنَّ هذِهِ الجدليّةَ تتميّزُ عن الجدّلِ الحديثِ في الفلسفةِ في كونِهِا جدليّةً مركّبةً، وَلِذَلِكَ فهي رؤيا تطابقُ الحلَّ الفلسفيَّ الجديدَ الذي قدّمناهُ وفقَ الفهمِ اللّغويِّ القصديِّ، والذي خلاصتُهُ أنّ التناقضَ في الوجودِ جوهريٌّ وداخليٌّ ولا يتعارضُ مَعَ مبدأ عدمِ التناقضِ الذي يقومُ عليهِ العلمُ الحديثُ والمنطقُ، بَلْ يعزِّزُهُ ويقوّيهِ، وهو الأمرُ الذي أغفلتهُ الفلسفةُ الحديثةُ فأوقعتْ نفسَها في مقولاتٍ ألغتْ بها تنظيرَها قبلَ إلغاءِهَا لأيِّ تنظيرٍ آخرٍ.
إنّ التناقضَ المذكورَ هو من صميمِ العلاقةِ الفلسفيةِ بَيْنَ المخلوقِ والخالقِ في فهمِ العراقيِّ القديمِ الذي يبدو من المَلْحَمَة أنَّهُ سَبقَ الجميعَ في ذلِكَ.
فالخالقُ الذي جعلَ هذِهِ الحياةَ واطئةً عن سابقِ عمدٍ وتخطيطٍ غايتُهُ فَرْزُ الذين يحبّون الحياةَ من الذين يمقتونَهَا. وبخلافِ المعادلةِ السّائدةِ في الأديانِ التي تؤكّدُ على ضرورةِ العزوفِ عن الحياةِ، فإنَّ الارتباطَ الفعليَّ بالخالقِ إنّما يتمُّ من خلالِ التشّبّثِ بالحياةِ والهيامِ بها باعتبارِهَا هبةَ الخالقِ التي لا تتكرَّرُ.. وهي بمثابةِ كلمةِ (شكرٍ) يقولُهَا المخلوقُ للخالقِ من أعماقِ قلبِهِ.
وَلِذَلِكَ فإنَّ المحبَّ للحياةِ مُحِبٌّ للهِ والكارهُ لها كارهٌ للهِ ولعطاياهُ. ومِنْ هنا ندركُ أنَّ الفرزَ الحقيقيَّ بَيْنَ أحبابِ اللهِ وأعداءِهِ يتمُّ من خلالِ نموذجٍ واطئٍ للحياةِ. فالذينَ عشقوا هذِهِ العطيّةَ يرفضونَ الاقتناعَ بهذا النموذجِ، والذينَ كرهوا عطيّةَ اللهِ قبلوا هذا النموذجَ.
قَدْ تكونُ المعادلةُ مقلوبةً في أذهانِ البعضِ.. لأنَّهُم قالوا: (إنّ "المؤمنَ" عازفٌ عن الحياة). لكنّها عبارةٌ غيرُ دقيقةٍ، إذ المؤمنُ الحقيقيُّ عازفٌ عن الحياةِ الدّنيا (النّموذجُ الواطئُ) لولعِهِ الشّديدِ بالحياةِ الحقيقيةِ بمعناهَا التّامِّ.
ومن هنا تظهرُ المعادلةُ الدّينيةُ.. فالذينَ ارتبطوا بالخالقِ ورفضوا الانصياعَ للموجوداتِ مَنَحَهُمْ المعرفةَ التي تمكِّنُهُم من التّسامي على الموجوداتِ.
وأمّا الذينَ كرهوا عطيّةَ اللهِ فإنّهُم أصبحوا عبيداً للأشياءِ.. الأشياءِ التي ولدَتْهَا الحياةُ... وهكذا تعملُ الحياةُ بطريقتينِ متناقضتينِ.. فَقَدْ اختبرتِ الخلقَ بنموذجٍ مزيّفٍ ومشوّهٍ يحملُ صورتَهَا فقط لكي تفرزَ من خلالِهِ المزيفينَ عن المحبِّينَ الحقيقيينَ. فالذي يكرهُ هذِهِ الصورةَ المشوّهةَ لها هو المُحِبُّ، والذي أحبَّ هذِهِ الصورةَ هو الكارهُ.
ومن الطبيعي أن يكونَ (الحُكّامُ) أكثرَ الخلقِ هياماً بهذه الصّورةِ المشوّهةِ، لذلك فإنّهم لا يتسامونَ عليها فَهُمْ أعداءٌ للحياةِ الحقيقيةِ ولا يجلبونَ لرعيّتِهِم سوى الموتِ والدّمارِ بخلافِ جلجامشَ الحكيمَ الذي يدفعُ الخطرَ عن أهلِ الأرضِ بنفسِهِ.
قَالَ جلجامشُ مخاطباً عشتارَ:
مَنْ هو الحبيبُ الذي عَشِقْتِ إلى الأبدِ؟
من هو الحاكمُ الذي سَمَا عليكِ؟
تعالي لأُفْصِحَ لَكِ عن محبِّيْكِ..
فلاحِظْ الآنَ أينَ يكمنُ التّوجهُ الفكريُّ والنّفسيُ لجلجامشَ. إنَّهُ مَلِكٌ وحاكمٌ ولكنَّهُ انفردَ بصفةٍ لَيْسَتْ في الحُكَّامِ أمثالِهِ وهي سُمُوُّهُ على الحياةِ الواطئةِ. وإذن فأيٌّ من عشّاقِ عشتارَ سوفَ يذكِرُهُ جلجامشُ؟.
طبيعيٌّ إنَّ الحياةَ تعني حالةَ العيشِ التي يراهَا في كلِّ الكائناتِ الحيّةِ، وكلُّ كائنٍ حيٍّ هو مثالٌ صالحٌ لمكيدةِ عشتارَ!.
بَلْ إنّ اسمَهَا نفسَهُ يوحي بهذه المكيدةِ، إذ لا تعني عشتارُ إلا لفظاً منحوتاً من العيشِ والشّترِ. والشّترُ في العربيةِ هو القطعُ، والشّاترُ القاطعُ، والمشتورُ الفاني الهالكُ. فهي إذن (عاش + شتر)، والنّاتجُ إمّا عاشَ مُنْقَطِعَاً أو انقطعَ عيشُهُ!.
ولكنَّ الحياةَ كَمَا هي نراها محبوبةً عِنْدَ الأكثريةِ، ومحتملٌ أن تكونَ معبودةً (الآنَ) أكثرَ مِمَّا كَانَتْ معبودةً في وادي الرّافدين! بَلْ نراها مفضَّلةً عِنْدَ كثيرينَ على الإلهِ الواحدِ نفسِهِ.
ويحاولُ نصُّ المَلْحَمَة أنْ ينبِّهَ إلى غفلةِ الإنسانِ من مكيدةِ عشتارَ خلالَ عرضِهِ للنّماذجِ التي انخدَعَتْ بعشتارَ ووقعتْ ضحيةً لها.
لَقَدْ كَانَ التّيارُ السّياسيُّ في العراقَ القديمَ يسيرُ بالرّمزِ تَبَعَاً للظروفِ والحاجةِ، ولكنَّ الفكرَ الاجتماعيَّ أو الشّعبيَّ العامَّ لا يتّفقُ دوماً مَعَ الفكرِ السّياسيِّ كَمَا هو الحالُ في كلِّ زمانٍ.
وتلكَ حقيقةٌ يَجَِبُ أنْ لا تُغْفَلُ عِنْدَ الحديثِ عن الرّمزِ. فإذا كَانَتْ عشتارُ قَدْ عُبِدَتْ كإلهٍ أو ربٍّ سياسياً، فهي ربٌّ مكفورٌ بِهِ ومُهانٌ في الفكرِ الدّينيِّ والاجتماعيِّ العامِّ. ولكنَّ عبادتَهَا كإلهٍ أو ربٍّ فهي أمرٌ مشكوكٌ فيه جدّاً، ذلِكَ لأنَّ طبيعتَهَا في هذا المنصبِ لا تختلفُ مطلقاً عن طبيعتِهَا في المَلْحَمَة كونها رمزاً للحياةِ الدّنيا.
ذلِكَ لأنَّ من طبيعةِ الحياة الدّنيا أنْ تكونَ غريبةَ الطّباعِ متقلّبةَ المزاجِ بَيْنَ عشّيةٍ وضُحاهَا، وهي حالاتٌ للدنيا عبَّرَ عنها الفكرُ الشّعبيُّ والأدبُ العربيُّ بَلْ والعالميُّ في كلِّ العصورِ. وبالتّالي فإنَّ طبيعتَها لا تُثيرُ استغراباً ما، كَمَا لو قُلْتَ إنّها إلهٌ أو ربٌّ معبودٌ، فَقَدْ احتارَ الباحثونَ في طبيعةِ عشتارَ حتّى أثارَ ذلِكَ استغرابَهم!.
وهذا طبيعيٌّ لأنّهم تصوّروها إلهاً للعراقَ القديمَ لا رمزاً للحياةِ الدّنيا. فالنّتيجةُ الوحيدةُ هي أنّهم عجزوا ويعجزونَ عن تحديدِ صلاحياتِ هذا الإلهِ.
لَمْ يكن العراقيُّ القديمُ إذن بهذا الحمقِ ليتخّذَ لنفسّه إلهاً واجبُهُ النّهاريُّ القيامُ بالحروبِ ولكنَّهُ في اللّيلِ يكونُ مسئولاً عن الملذات والجّماع!.
ومحاولتُهُم جَعْلَهَا إلهاً (للحربِ والحبِّ) فاشلةٌ.. فأين الحبُّ من الحَرْبِ؟
وما علاقتُهَا بالإنجابِ والولادةِ وظهورِ النّباتاتِ؟ وما علاقتُهَا بالرّياحِ وتمّوزَ والرّاعيِّ والأسدِ حيثُ عَشَقَتْهُم؟
وهكذا.. وقعَ الباحثونَ في دائرةٍ ضيّقةٍ جداً من التّحليلِ لمرموزاتِ العراقَ القديمَ.
قَالَ صاحبُ كتابِ (الفكرِ السّياسي في العراق القديم):
(وأهميّةُ عشتارَ ووظيفتُهَا تتراوحان من مكانٍ إلى آخرٍ ومن زمانٍ إلى آخر فإذا كَانَتْ في الصّباحِ آلهةَ الحربِ فإنّها في المساءِ آلهةَ الّلذةِ).
الفّكر السّياسي في العراق القديم/عبد الرّضا الطّعان-381
وهذا النصُّ يمثّلُ محنةَ الباحثينَ في تفسيرِ طبيعةِ عشتارَ.
أمّا حينَمَا تكونُ رمزاً للحياةِ الدّنيا، فمن المؤكّدِ أنّ كلَّ نشاطٍ هو من صلاحياتِ وأعمالِ عشتارَ، بَلْ تذهبُ المَلْحَمَة إلى أبعدِ من ذلِكَ، تذهبُ إلى بعدٍ فلسفيٍّّ عالٍ حينَمَا تجعلُ معنى الحياةِ عامّاً جدّاً. فالموجوداتُ كلُّها تتصّفُ بالحياةِ من حيثُ أنّها متحرّكةٌ وأنّ الحركةَ هي الحياةُ. وَلِذَلِكَ اختارَ جلجامشُ البارعُ في البلاغِة وعِلمِْ الكلامِ نماذجَ مختلفةً جدّاً تمثِّلُ الحركةَ بكافّةِ صورِهَا.
فالزّمنُ هو الآخرُ كائنٌ حيٌّ لأنّه متحرّكٌ، وبالتّالي فإنّهُ من عُشَّاقِ عشتارَ!
وهكذا ذَكَرَ جلجامشُ ستةُ نماذجٍ وتركَ السّابعَ ليكونَ هو المقصودَ قائلاً:
وإذا أحببتُكِ فسيكونُ مصيري مثلَهُمْ
والنّماذج التي ذكرها هي:
1. تمّوز (فصل)، 2. الطّير، 3. الأسد، 4. الحصان، 5. الرّاعي، 6. المزارع (إيشو للانو).
إنّ هذا التّرتيبَ العدديَّ له مقاصدٌ. فإنَّ أيّامَ الخلقِ ستةُ أيّامٍ، وفي اليّومِ السّابعِ ينتهي عمرُ الكونِ أو كَمَا قيلَ في الحديثِ الشّريفِ (الدّنيا جمعةٌ من جُمَعِ الآخرةِ ـ أي أسبوع ـ)، فكذلك رفضَ جلجامشُ أن يكونَ ضحيَّتُها السّابعةُ.
وكلُّ هؤلاءِ قَدْ أصابَهُم من انقطاعِ العيشِ بعد مسخِهِم ما أصابَهُم، وهم رموزٌ واضحةٌ لابتلاءِ الكائناتِ بعضِها ببعضٍ في الحياةِ.
ومن الضّروريِّ أنْ نأخذَ نموذجينِ منهما في الأقلِّ لنلاحظَ كيفَ شَحَنَ الكاتبُ فلسفتَهُ التناقضيةَ لتفسيرِ العالمِ من خلالِ هذِهِ الرّموزِ مُظْهِراً الجدليّةَ الأعمقَ غوراً في الوجودِ، إذ جعلَ فصلَ تمّوزَ أَحَدَ الكائناتِ المفعمةِ بالحركةِ والتي خُدِعَتْ بمكيدةِ عشتارَ.
فالرّاعيُّ مثلاً مُسِخَ ذئباً. وتبدو هذِهِ العمليّةُ من غيرِ دراسةٍ وكأنّها أوهامٌ أو أساطيرٌ.. بَيْدَ أنّها جزءٌ من النّسيجِ الفكريِّ المتلاحمِ لعملِ الرّموزِ مَعَ بعضِهَا البعضِ لإظهارِ التّناقضِ الجوهريِّ الكامنِ في طبقةٍ أعمقَ من الوجودِ، أي الذي هو تحتَ السّطحِ الذي يحكمُهُ مبدأُ عدمِ التّناقضِ.
كيف ذلِكَ؟.. لأنّ الرّاعيَّ في حالةٍ من التّناقضِ مَعَ القطيعِ الذي يرعاهُ. فهو يهوي بِهِ إلى مواطنِ الكلأ ويقدّمُ الأعلافَ ليزيدَ من عددِ الماشيةِ بالتوالدِ ولتكونَ الأفرادُ أكثرَ سمناً. ولكنَّهُ في الواقعِ لا يفعلُ ذلِكَ إلاَّ ليكونَ القطيعُ طعامَهُ. فالملحمةُ لا تتحدّثُ عن تناقضِ القطيعِ نفسِهِ لكونِهِ (آكل ـ ومن ثمّ مأكول)، فهذا تناقضٌ ظاهريٌّ.
بَلْ تتحدّثُ عن الرّاعي، إذ يرى نفسَهَ أفضلَ من القطيعِ، وَلَمْ يَمُرْ بحالةٍ من التّناقضِ مثلَهُ لتبرهنَ له أنّ الأمرَ سواءٌ بسواءٍ!، لأنَّهُ قَدْ تحوّلَ في حقيقةِ الأمرِ إلى (ذئبٍ). فالذئبُ يفترِسُ القطيعَ من غيرِ أنْ يرعاه، أمّا هو فإنَّهُ يرعاهُ ثمّ يفترسُهُ، فهو مَسْخٌ لا غير.
وَقَدْ تقولُ: (وما هو الحلُّ؟ هل تنصحُنا المَلْحَمَة بعدمِ أكلِ الّلحومِ التي هي ألذِّ الأطعمةِ؟)
كلاَّ.. إنّ المَلْحَمَة تقدِّمُ الحلولَ من خلالِ كاملِ النصِّ.. إنّها تنبِّهُ إلى أنَّ هذِهِ السّيادةَ في الحياةِ مشمولةٌ بنفسِ الخدعةِ، فهي سيادةٌ وهميةٌ، إذ سيقومُ هذا السيّدُ بخداعِ هذِهِ الكائناتِ وذبحِهَا. فاقتناعُهُ بحياةٍ على مثلِ هذِهِ الصّورةِ المشوّهةِ هو مثلُ قناعتِهِ بأن يكونَ مسخاً كالذّئبِ.
وأمّا الحلُّ فهو في الارتباطِ بخالقِ الحياةِ ورفضِ الإذعانِ لعشتارَ. فالذي خَلَقَ هذِهِ الصورةَ المشوّهةَ للحياةِ، إنّما أعطى إشارةً واضحةً إلى أنَّهُ يمتلكُ الوجهَ الحَقيقيَّ الآخرَ للحياةِ.
وَقَدْ تقولُ: (إنّ هذا الوجهَ إنّما يأتي بِهِ هذا الحلُّ بعد انقضاءِ هذِهِ الحياةِ، فالنّتيجةُ تبقى هيَ هي).
الجّواب: إنَّ تِلْكَ هي واحدةٌ أخرى من الصورِ المشوّهةِ التي قدَّمَتْها عشتارُ عن طريقِ عشّاقِها. لَقَدْ أثبتنا في مؤلّفاتٍ أخرى وبأدلّةٍ قاطعةٍ أنّ الحياةَ الأبديّةَ (الآخرةَ) هي حياةٌ بديلةٌ لهذه تحلُّ محلَّهَا، وَلَيْسَتْ هي في موقعٍ جغرافيٍّ آخرٍ، وإنَّ الوصولَ إليها يستلزمُ تغييراً في النّظامِ الطّبيعي، وإنَّ الأديانَ السّماويةَ إنّما جاءتْ لتبشِّرَ بهذا التغييرِ المرتبطِ شرطيّاً بإتِّباعِ النّاسِ (ولو جزءً منهم كنواةٍ أوّليّةٍ) لتعاليمِ السّماءِ. بَيْدَ أنَّ هذِهِ الفكرةَ قَدْ شُوِّهَتْ تشويهاً تامّاً بحيثُ لَمْ يبقَ من الأديانِ إلاَّ الأسماءَ بعد إنْ تمَّ تبديلُ محتواهَا الأساسيِّ المرتبطِ بهذا التّغييرِ.
إذن فالملحمةُ تُخبرُنا بإمكانيةِ الحصولِ على هذِهِ الحياةِ الأخرى خلافاً لما هو سائدٍ في تفسيرِهَا، إذ أنّ فشلَ جلجامشَ في الحصولِ على الخلودِ كَانَ سببُهُ (وجودَ الآخرينَ) الذينَ قطعوا عليه طريقَ الخلودِ. أمّا هو فَقَدْ نجحَ عمليّاً في الحصولِ عليه. ومعنى ذلِكَ أنَّ الطبيعةَ لا تتغيرُ لمجرَّدِ وجودِ فردٍ واحدٍ مثلَ جلجامشَ! إذ يتوجّبُ على مجموعةٍ من الجنسِ البشريِّ أن تكونَ كذلك لتشكِّلَ نواةً صالحةً تستحقُّ هذا التغييرَ.
وأمّا إذا لَمْ يحاولْ الإنسانُ أيَّةَ محاولةٍ باتجاهِ هذا الهدفِ فهو إذن مسخٌ لا يفقدُ سيادتَهُ على الكائناتِ وحسب، وإنّما سيكونُ أسوأَهَا في سُلَّمِ التّرقي. ويبدو أنَّ الفكرةَ قَدْ اختُصِرَتْ أخيراً في آخرِ كتابٍ منزَّلٍ من السّماءِ في عبارَةِ:
(ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِيْن) (التّين:6)
قَالَ جلجامشُ:
وأحببْتِ راعي القطيعِ
الذي يَعْقِرُ لكِ العجولَ كلَّ يومٍ
ولكنَّكِ ضَرَبْتِهِ محوِّلةً إيَّاهُ ذئباً!
لماذا يَنحِرُ الرّاعي العجولَ ولِمَنْ؟
إنَّهُ ينحرُهَا ليأكلَ الإنسانُ وتستمرَّ الحياةُ… إنَّهُ ينحرُ لأجلِ عشتارَ الجليلةَ!!!.
وحينما يقسو قلبُ الإنسانِ بهذه الممارسةِ المتناقضةِ فإنّها تنعكسُ ولا ريبَ على سلوكِهِ مَعَ أفرادِ جنسِهِ أيضاً. وهنا يذهبُ النصُّ إلى بُعْدٍ آخرٍ في تصويرِ التّناقضِ، حيثُ يستخدمُ العبارات نفسَهَا لتصويرِ علاقةِ الإنسانِ بالإنسانِ:
وصارَ يطاردُهُ الآنَ إلفُهُ من حُمَاةِ القطيعِ
وكلابُهُ تَعِضُّ سَاقيْهِ
فحينما تحوَّلَ الرّاعي إلى مجرَّدِ مِسْخٍ (ذئبٍ) جرى تحوُّلٌ مماثلٌ في جميعِ الطّبقاتِ المتشابهةِ والواقعةِ تحتَ سطوةِ عشتارَ.
فمن المؤكّدِ إذن أنَّ حماةَ القطيعِ (قطيعِ الرّعاةِ لا قطيعَ الجِداءِ) صاروا يُطاردونَ رعيَّتَهُم مثلما نَحَرَ الرّاعي رعيَّتَهُ في النّهاية. وأمّا كلابُهُم (وهُمْ هنا الأعوانُ والجّندُ) فإنَّهُم صاروا يَنهِشونَ ساقَيهِ.
وهكذا يستمرُّ جلجامشُ في سَرْدِ نماذجِهِ لعشّاقِ عشتارَ، بَيْدَ أنَّهُ اختارَهُم اختياراً مُحدَّداً لإظهارِ جميعِ الأصنافِ المحتملةِ من الكائناتِ في ابتلاءِ بعضِها ببعضٍ بهذه الخدعةِ.
حتّى الزراعة التي تُعْتَبَرُ من أشرفِ المهنِ وأكثرِهَا بُعْداً عن الخداعِ اختارَ مِنْهَا جلجامشُ نموذجاً لضحايا عشتارَ، ذلِكَ لأنَّ الحياةَ هي حياةٌ واحدةٌ للجميعِ.
فالمُزارِعُ بالرّغمِ من حَذَرِهِ الشّديدِ من عشتارَ إلاَّ أنَّهُ وَقَعَ في حبائلِهَا أيضاً. ذلِكَ أنَّ المُزارعَ يطوِّرُ زراعَتَهُ ويكونُ من الأثرياءِ جدّاً. ولكن(إيشو ـ لنو) آثَرَ القَناعةَ بالقليلِ كَمَا يبدو على الكثيرِ الذي يَجلِبُ العارَ على حدِّ تعبيرِهِ!. وهو التّعبيرُ الذي ذَكَرَهُ مُجيباً عشتارَ على مغازلتِهَا له حينَمَا قالت:
تَعالَ يا حَبيبي إيشو ـ لنو وَدِعْني أتمتَّعُ برجولتِكَ
مُدَّ يدَكَ والمَسْ مفاتنَ جسمِي
فقالَ لكِ (إيشو ـ لنو)
ماذا تَرومينَ مِنِّي؟
ألمْ تخبزْ أُمِّي فآكلُ من خُبزِهَا؟
فلماذا آكِلُ من خبزِ الخَنَا والعارِ؟
ولكن المُزارعَ إذا صارَ قنوعاً إلى هذا الحدِّ فماذا يحصلُ؟.. الذي يحصلُ أنّه لن يقومَ بفعلِ شيءٍ يُنمِّي ثروتَهُ أو زراعتَهُ. ولمّا كَانَتْ حالةُ الأرضِ في مثلِ هذا السّلوكِ تسوءُ دوماً، إذ تهاجمُهَا الأملاحُ والقصبُ فسوف يفتقرُ شيئاً فشيئاً، وسوف يهلكُ نفسَهُ في الحصولِ على القوتِ ويسبقُهُ الزّمنُ فيبقى لاهثاً في شقاءٍ طويلٍ مقابلَ مردودٍ ضئيلٍ جدّاً. وباختصارٍ سيتحوّلُ إلى (ضفدعٍ برمائيٍّ) نصفُهُ في الطّينِ ونصفُهُ في اليابسةِ، وهي صورةٌ تدِلُّ على روعةِ اختيارِ المَلْحَمَة لهذا النّموذجِ الذي لا زالَ قائماً في هذِهِ السّاعةِ في أنحاءِ العراق الوسطى والجنوبية خصوصاً:
وأنتِ لمّا سمعتِ قولَهُ هذا
ضَرَبْتِهِ بعصَاكِ ومَسَخْتِهِ ضفدعاً
ووضعتِهِ وسطَ الحقولِ
فلا يستطيعُ أنْ يعلوَ مرتفعاً
ولا ينزلَ مُنحدِراً..!!
وبمثلِ ذلِكَ يمكنُنَا تحليلُ بقيّةِ النّماذجِ من ضحايا عشتارَ، وهم مجموعةُ الكائناتِ المُهانةِ الذين أذلَّتهُم عشتارُ لأنّهم قبلوها كحبيبةٍ لهم أو غفلوا عن مكائدِهَا. وهنا تظهرُ أهميةُ (الوعي) باعتبارِهِ المُنقذَ الوحيدَ للإنسانِ لأنَّ المزارعَ لَمْ تسعفْهُ نواياهُ الحسنةُ وحدُهَا في الخروجِ من شُبَاكِ المصيدةِ التي ألْقَتْ بها عشتارُ على الكائناتِ.
ثمَّ خَتَمَ جلجامشُ خطابَهُ هذا بالقولِ:
وإذا أحْبَبْتِني فَسَوفَ تَجعليْني مِثْلَهُم
ولكن أقوالَ جلجامشَ هذِهِ تمثِّلُ من ناحيةٍ أخرى اعتراضاً صارخاً على (إرادةِ اللهِ) التي شاءَ بها أنْ تكونَ الحياةُ (النّموذجُ الأوّلُ) على هذِهِ الصّورةِ.
هذا ما يدورُ في أذهانِ البعضِ وإنْ كَانَ هو اعتراضاً لا منطقياً.. ولكنَّ النّصَّ جعَلَهُ من اعتراضاتِ عشتارَ ربَّةِ هؤلاء المعترضين! إذن فلا بدَّ أن تقدِّمَ عشتارُ شكوى إلى (والدِهَا) الذي جاءَ بها إلى الوجودِ، والمقصودُ بالطّبعِ (آنو) كبيرُ آلهةِ السّماءِ حَسَبَ الشُرّاح ممَّا نراهُ في الموضوعِ الآتي.
رَمْزيَّةُ الثَّوْرِ السَّمَاوي
بَعْدَ الإهاناتِ التي قدَّمَهَا جلجامشُ لعشتارَ كان لا بدَّ لها من أن تقدِّمَ شكوىً ضدَّهُ إلى مصدرِ وجودِهَا (أبيها) الذي هو آنو. ومع إنّنا سنحاولُ فكَّ الرّمزِ في الثّورِ السّماويِّ إلاَّ أنّ النّتائجَ يؤيِّدُ بعضُهَا بعضاً، إذ سيكشِفُ التحليلُ عن مزيدٍ من الدّلائلِ على رمزيةِ عشتارَ كونها تمثِّلُ الحياةَ الدّنيا:
ولمَّا سمِعَتْ عشتارُ هذا
استشاطَتْ غضباً (غيضاً) وَعَلَتْ إلى السّماءِ
صَعَدَتْ عشتارُ وَمَثَلَتْ أمامَ أبيها (آنو)
وفي حضرةِ أمِّهَا (آنتوم) جَرَتْ دموعُهَا وقالتْ
يا أبي إنَّ جلجامشَ سبنَّي وأهانني (عَزَرَنِي)
لقد عدَّدَ جلجامشُ مثالِبي وعاري وفحشَائي
لقد أحسنَ المترجمُ هنا حينما وضعَ (عَزَرَني) بديلاً محتملاً للسبِّ. فقد وَرَدَ النصُّ الأصلي هكذا:
أ ـ بي ـ إيلو ـ كل ـ كا ـ مش أيت ـ تا أز زا ـ را ـ ني.
قال الأحمد في الهامش: إيت تا ززاراني ـ فِعْلٌ ماضيٌّ تامٌّ من المصدرِ نازارو.
وأقولُ: إنّ هذا أمرٌ عجيبٌ، إذ كيف تأخذُ صيغةَ الماضي التّامِّ رموزاً صوتيّةً أكثرَ من الفعلِ نفسِهِ؟ لا بدَّ إذن أن تكونَ (أيت-تا) واحدةً منها في الأقلِّ مفردةً أخرى ذاتَ دلالةٍ.
وقولُهُ: ("نازارو" بمعنى "لَعَنَ").. فهو قولٌ مستحيلٌ لا ينسجمُ مع وحدةِ الموضوعِ. وأقرَّرُ هذا الحكمَ وإن كنتُ أجهلُ هذه اللّغةَ وأفتقِرُ إلى أيِّ مصدرٍ أو قاموسٍ لها.
ذلك أنَّ الحكماءَ لا يلعنون الحياةَ الدّنيا، وإنَّما يعدِّدون مثالبَهَا فقط. ومن المُحتملِ أنْ يكون الفعلُ هذا هو نفسَهُ الفعلَ العربيَّ (أزْرَى) من الزّرايةِ. وهي لفظةٌ تختلفُ دلالياً عن اللّعنِ.
أمّا لفظ (عَزَرَني) الذي وضعَهُ طه باقر فهو بعيدُ لأنّهُ يستلزِمُ وجودَ شيءٍِ مشخّصٍ لهُ حدودٌ.
وعلى هذا تكونُ التّرجمةُ المقترحةُ من قبلنا هي:
أبي إنّ جلجامشَ (جدّاً) أزْرَاني
لقد أرادتْ الملحمةُ وبطريقةٍ فذّةٍ تدميرَ المسّلمّاتِ الفكريةِ الخاطئةِ عندَ النّاسِ، وكذلك تدميرَ جملةٍ من منطِقِهِم الملتوي الذي يحسِبُونَهُ صَحيحاً.
إذ رُبَّما يَحسِبُ المرءُ أنّ (آنو) يمكنُ أن يستقبلَ شكايةً على جلجامشَ المتَّصِفَ بالحكمةِ من عشتارَ!.
لأنَّ مثلَ هذا الحسابَ قد توجَّهَ به البعضُ إلى الأديانِ السّماويةِ بالفعلِ على صيغةِ أسئلةٍ من أمثلتِهَا: (لماذا يَذِمُّ الأولياءُ والأنبياءُ الدّنيا؟.. لماذا يُكرِّسُ مَنْ هو مثلُ الإمامِ علي (ع) جُلَّ خُطَبِهِ في عَدِّ مثالبِ الدّنيا؟.. أليستْ الدّنيا مِنْ خَلْقِ اللهِ وتمثِّلُ إرادتَهُ؟).
فمِثْلُ هذا الحسابِ يسقِطُ فوراً بناءاً على التّحليلِ السّابقِ الذي خلاصتُهُ: (إنَّ اللهَ تعالى خَلَقَهَا أصْلاً لهذه الغايةِ، أي للتمييزِ بين الفئتين: فئةِ الذين يرصدونَ مثالبَهَا، وفئةِ الذين تُعجبُهُم. فهو تعالى مع الفريقِ الأوَّلِ وضدَّ الفريقِ الثاني).
ولكنَّ هذا الموقفَ ليس مجرَّدَ موقفٍ فكريٍّ.. إنَّهُ موقفٌ عمليٌّ، ولكنّه لا يَظهرُ كنتائجٍ ملموسةٍ إلاَّ حينَ يحصلُ الفرزُ التّامُ بين الفريقَيْنِ الأمر الذي لم يحصلْ لحدِّ اليّوم، إذ يتوّجبُ على الفريقِ الأوّلِ (السّعيَ) لتحصيلِ الثّمرةِ العمليّةِ لا مجرَّدَ انتظارِ حصولِ (آخرةٍ) في موقعٍ جغرافيٍّ من السماءِ بعيدٍ!.
فالآخرةُ تعبيرٌ زمانيٌّ لا أَثَرَ للمكانِ فيه، وتمثِّلُ هذه الفكرةَ روحَ الأديانِ السّماويةِ التي شُوِّهَتْ في جمِيعِها تشويهاً كاملاً بفضلِ الاعتباطِ اللغويِ، ذلك أنَّ الإنسانَ كائنٌ بطيءُ التّعلُّمِ إلى حدٍّ مُقْرفٍ، وينخدعُ بسهولةٍ عجيبةٍ. وهكذا بَدَتْ الملحمةُ وكأنَّها تحاولُ أن تعلِّمَ الإنسانَ المبادئَ الأولى لوجودِِهِ وأهدافِهِ وغاياتِهِ في تجانسٍ يَندِرُ وجودُهُ في أيِّ نصٍّ أدبيٍّ آخرٍ.
فهي إذ تسمحُ بتقديمِ الشّكوى من عشتارَ من جهةً، فإنَّها تمنعُ من جهةٍ أخرى عن قبولِهَا من قبلِ آنو.
وهكذا ظهرَ آنو مؤيّداً لجلجامشَ ضدَّ عشتارَ!. وهذا هو المطلوبُ في الدّرسِ الأوّلِ الذي هو أبسطُ دروسِ الملحمةِ.
أجابَ آنو على شكوى عشتارَ قائلاً:
أَلَمْ تكوني السّببَ؟
أَلَمْ تَتَحرَّشي بجلجامشَ المَلِكِ؛ فَجَنَيْتِ الثّمرةَ؟
فَعَدَّدَ جلجامشُ فحشاءَكِ
وعَدَّدَ مثالبَكِ وعارَكِ؟
لقد بدا آنو هنا يؤيِّدُ جلجامشَ تأييداً كاملاً، إذ يُعيدُ أقوالَهَا نفسَهَا ويَرِدُّ عليها شكايتَهَا وهو غيرُ آبهٍ بدموعِهَا الجاريةِ!.
وفوقَ ذلك فإنَّ آنو يسمّيْهِ (المَلِكَ)!. وهذا لا يعني إلاَّ شيئاً واحداً فقط هو أنَّ ملوكيةَ جلجامشَ هي وحدُهَا الملوكيةُ الممنوحةُ له من اللهِ في عالمِهِ الذي عاشَ فيه. وهو يعني بناءً على ذلك أنّ حكمتَهُ ومعرفتَهُ للأسرارِ وغزْوَهُ للفضاءِ هي نتائجٌ لهذه الملوكيةِ الإلهيةِ التي لم تكنْ من تنصيبِ الخَلْقِ. وهذا يُذكِّرُنَا بأوّل الملحمةِ حيثُ قالَ النّصُّ:
مَنْ؟ مَنْ غيرُ جلجامشَ يستطيعُ أنْ يقولَ:
أنا المَلِكُ؟
ونفترضُ أنَّ القارئَ سيتذكَّرُ هذه العباراتِ حينما نَصِلُ في نهاية البحثِ إلى البرهنةِ على أنَّ جلجامشَ هو ذو القرنينِ المذكورُ في القرآنِ الذي قال فيه:
(إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) (الكهف:84)
وهو نفسُهُ الذي ذَكَرَتْ نصوصٌ أخرى أنَّهُ أوّلُ مَلِكٍ على الأرضِ من تعيينٍ إلهيٍّ بعدَ الطّوفانِ.
وإذن.. فملوكيّةُ جلجامشَ هي الوحيدةُ الملوكيّةُ الإلهيةُ المنشأ، ولذلك تستحيلُ مخادَعَتُهُ.
ولكن.. هل هذا هو كلُّ ما لدى عشتارَ من أشياءٍ تقاضي بها جلجامشَ؟
كلاَّ.. بالطّبع. فالتّناقضُ الذي يتحدّّثُ عنه جلجامشُ في الحياةِ هو سُنَّةٌ جاريةٌ وناموسٌ ساري المفعولِ على الجميعِ بما في ذلك جلجامشَ نفسِهِ!
ولمّا كانت عشتارُ هي الحياةُ ووظيفةُ الحياةِ هي الخلقَ والتكوينَ، فَلِمَ لا تتقدَّمُ بطلبٍ آخرٍ هو من جملةِ الصّلاحياتِِ الممنوحةِ لها في خَلْقِ وتكوينِ (كائنٍ) بهيميٍّ متوحِّشٍ لِيقفَ مقابلَ جلجامشَ؟.
فالتّناقضُ طبيعتُهَا، والخَلْقُ وظيفتُهَا وكلُّ ما تحتاجُهُ هو (توقيعٌ) فقط من آنو على (المقترحِ).
لماذا تحتاجُ إلى هذا التّوقيعِ؟.. لأنَّ هناك قوىً أخرى لا تقدِرُ على التحكِّمِ فيها ما لم يوقِّعْ آنو من جملتِهَا (القَدَرُ) الذي لا يقوى حتى أشرسُ عبيدِهَا (الزّمانُ) على إخضاعِهِ ما لم يلوي آنو عُنُقَهُ!.
وأمّا المعنى العامُّ لذلك فهو (العدلُ)، إذ تقضي العدالةُ أن تعاقبَ الحياةُ الدّنيا أولئكَ الذين يريدون الاستعلاءَ عليها وتحقيرَهَا. أليستْ هي حياةٌ ومن حقوقها الأساسيِّةِ أن تخترعَ المخلوقاتِ؟ أو تسلبَ راحةَ من خَلَقَتْهُ؟.
فلتحاولَ إذن إخراجَ المخلوقاتِ الحقيرةِ القذرةِ المؤذيةِ التي تؤذي الرّجالَ الصّالحينَ لتعاقبَهُم على إهمالِهِم لها.
فلتطلبَ إذن أن يَخْلُقَ آنو لها (ثوراً)!، إذ لا يقابلُ الحكماءَ سوى الثيران، ثوراً يُزبدُ ويرعدُ… لا علاقةَ له بالمنطقِ المتّفقِ عليه بين العقلاء. وربّما تكون تلك المفردةُ هي الوحيدةُ الملائمةُ لوصفِ أعداءِ الصّالحينَ من الرّجالِ. فليس بدعاً أن نجدَ الإمامَ عليٍّ (ع) يستعملُهَا ذاتَهَا لوصفِ قائدٍ كبيرٍ انشقَّ أخيراً وتوجَّهَ بجيشٍ لحربِهِ.
وتتّصِفُ المعادلةُ بأن تقوم القوّةُ العمياءُ بمواجهةِِ الحكمةِ الواعيةِ. وهذا هو حقُّ عشتارَ.. ولكن لمَّا كان آنو حكيماً، بل أحكمُ الجميعِ فهو إذن يدرك أحقيَّةَ عشتارَ بهذا المطلبِ، ولكن هناك مشكلةً واحدةً فقط.
فإنَّ الثّيرانَ الهائجةَ تسبِّبُ منازعاتٍ وفتناَ وحروباً في النّهاية، وهي بذلك تستنزِفُ الطّاقاتِ، وهو أمرٌ يعرقِلُ مسيرةَ الحياةِ نفسِهَا.. أَوَ ليسَ من الحُمْقِ أن تقومَ عشتارَ بإهلاكِ نفسِهَا؟
يستخدم آنو هذه الورقةَ في محاولةٍ لا لِرَدِّ طلبِهَا، بل لإجراءِ تعديلٍ فيه يتضمَّنُ وضعَ شرطٍ أساسيٍّ.
ذلك أنّ الصّراعَ ليس مشكلةً بالنّسبةِ لآنو، بل يبدو أنّ الصّراعَ يخدمُ قضيّةَ آنو أصلاً ولكنْ بشرطِ أن لا يؤدّي إلى توقّفِ الحركةِ نهائيّاً.
فالفتنُ هي سبيلُهُ الوحيدُ لإفهامِ الكائناتِ أنّها عديمةُ القيمةِ بغيرِ آنو!. إذن فقبولُ الشّكوى على جلجامشَ شيءٌ وخَلْقُ ثورٍ يواجهه شيء آخر!.. وَرَدُّ الشّكوى لا يعني أنّْ لا يوافقَ على إدخالِ جلجامشَ في صراعٍ!.. فلماذا إذن أحبَّهُ ومنحَهُ المعرفةَ؟.. لأنَّهُ يريدُ أن يميِّزَ به الآخرينَ.. فهو إذن جزءٌ من الصّراعِ. قال آنو:
إذا أَردْتِ أنْ أفعلَ ما تريدينَ منِّي
فسوفِ تكونُ سبعُ سنينَ من القحطِ
فهل جمعتِ حبوباً للنّاسِ؟ وحشيشاً للدوَّابِ؟
لأنَّهُ إذا خَلَقَ ثوراً هائجاً ليواجَهَ جلجامشَ فسوف تحدِثُ فتنةٌ في المجتمعِ وصراعٌ يؤدّي إلى توقُّفٍ في المعايشِ. وإذن فواجبُ الحياةِ (عشتارَ) أنْ تقدِّمَ المُؤَنَ اللازمةَ لاستمرارِ العيشِ خلالَ فترةِ الصّراعِ.
ويبدو من هذا النصِّ بشكلٍ جليٍّ أنَّ آنو يرغبُ أو يشتهي إحداثَ الصّراعِ أصلاً فلا يحتاجُ إلى شيءٍ من الحثِّ، فهو لا يشترطُ للبدءِ فوراً أيَّ شيءٍ سوى ما يَسِدُّ الرّمقَ: حبوباً للنّاس وحشيشاً للدوَّاب!!.
فهذا يؤكِّدُ الفكرةَ الدّينيةَ العامّةَ من أنَّ الفِتَنَ مفيدةٌ لقضيّةِ الإلهِ، إذ بها يتميَّزُ الفريقان:
(أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (العنكبوت:2)
وما أسرعَ ما أجابتْ عشتارُ قائلةً إنَّ هذه الشروطَ متوفرةٌ وحسبُ الأصولِ:
لقد جمعت حبوباً للنّاس
وحشيشاً للدوَّابِ
فإذا وَقَعَتْ سبعُ سنينَ من القحطِ
فقد جمعتُ أنا حبوباً للناسِ
وحشيشاً كاملَ النموِّ للدوَّاب
و…..