وكان وصولُنَا إلى المدينةِ (يعني المنَوَّرَةِ) وَقْتَ الظهرِ والمؤَذِّنُ يؤذِّنُ وكان خروجُنَا عِنْدَ ارتفاعِ الشَّمسِ فقلتُ أبالله العَجَب كُنَّا في جَبَلِ قافٍ مسيرةَ خمسِ سنينٍ وعُدْنَا في خمسِ ساعاتٍ من النَّهَار؟؟!).
بالطبعِ يمكنُ للمرءِ أنْ يقولَ: ( وكيفَ أُصَدِّقُ أنَّ السحابَةَ تَحْمِلُ الإنسانَ في الفَضَاء؟). لكنَّهُ يَنْسَى في واقعِ الأَمْرِ أنَّ (السحابَةَ) ليست هي من نوعِ السحب التي يَرَاها عادةً. فَمَنْ هو الذي أَعْطَاهُ الحَقَّ في تحجيمِ مَعْنَى المُفْرَدَةِ لِيَخُصَّ بها ما يعجبُهُ أو ما يتصوَّرَهُ في ذهنِهِ وحَسْبُ دونَ سِواهُ من المعاني؟. فهنا تَكْمِنُ مشكلَةُ الاعتباطِ اللغويِّ، لأنَّنَا إذا افْتَرَضْنَا أنَّنَا نقابِلُ رَجُلاً ماتَ مُنْذُ قرونٍ وسَألناهُ: ( ما مَعْنَى (سيارة)؟، فإنَّهُ سيقولُ: (معناها القومُ السائرون والجماعة السائرة). وإذا حَقَّقْنَا مَعَهُ كثيراً فَلَنْ يَصِفَ لنا في كلِّ الأحوالِ (السيارةَ) التي في أذهانِنَا ذاتَ المُحَرِّكِ والعَجَلاتِ!.
فهنا احتمالانِ فَقَطْ: إمَّا أنْ يَحُقَّ لنا أنْ نُسَمِّيها سيارةً لأنَّها تقومُ بِفِعْلِ السَّيْرِ وإمَّا لا يَحُقُّ لنا ذلكَ.
وبالطبعِ يَحُقُّ لنا أنْ نُسَمِّيها سيارةً.. فلماذا يَحُقُّ لنا استعمالُ مُفرداتِ القُدَمَاءِ لِمَا لَمْ يستعملوه مطلقاً ولا يَحُقُّ لهم استعمالُ مُفردات ِاللغة لِمَا لا نَعْرِفُهُ مِنَ الأشياءِ؟
نعم.. لو قَرَأْتَ مُؤَلفاتِنَا اللغويةَ الأُخرى لأنكشَفَ لك الأمْرُ. فثَمَّةُ محاولاتٌ قديمةٌ متجدِّدَةٌ لإبعادِنَا عن الفَهْمِ الصحيحِ للغةِ كي لا نكتشِفَ المراميَّ المزبورةَ في النصوصِ ذاتِ الخطورةِ.
وبالتأكيدِ فإنَّ (السحابةَ) التي رَكَبَهَا الوليُّ وجماعَتُهُ هي (سحابةٌ) على أصْلِ المعنى تقومُ بِفِعْلِ السَّحْبِ ولا علاقةَ لَهَا بالغيومِ، والدليلُ على ذلكَ أنَّهُم رأوا الأرضَ كالدرهمِ، وهو عَيْنُ مَنْظَرِهَا التي تُرى فيه من الفَضَاء في زَمَنٍ كانَ عِلْمُ الفُلْكِ فيه يَعْتَمِدُ على (قُبَّةِ بطليموس) حيثُ السَّمَاء قُبَّةٌ مضروبةُ الإطنابِ كالخيمةِ على الأرضِ المسطَّحَةِ وَقَدْ عُلِّقَتْ فيها النجومُ كَمَا تُعَلَّقُ القناديلُ في الخيمةِ!!.
السَّادِسُ: التَشَابِهُ بَيْنَ جَبَلِ ذي القرْنَينِ وَجَبَلِ جلجامشَ
يَرْحَلُ جلجامشُ في العمودِ الأولِ من اللَّوحِ التاسعِ باتِّجاهِ مَطْلَعِ الشَّمسِ. وهذه العبارَةُ يَجِبُ أنْ لا نَفْهَمَ منها أنَّهُ أتَّجَهَ نَحْوَ المَشْرِقِ!. فالعبارَةُ دقيقةٌ جداً فهي تشيرُ إلى أنَّهُ أتَّخَذَ مَسَارَ الشَّمسِ من مَطْلِعِها اتِّجاهَاً للحركةِ. فَكَمَا تَسيرُ الشَّمسُ من المَشْرِقِ إلى المَغْرِبِ بالنسبةِ لنا فهو يتحَرَّكُ بهذا القوسِ. ولذلك أختلفَ التعبيرُ عَنْهَا في القرآنِ الكريمِ حيثُ أشار في الرحلةِ الأولى إلى مَغْرِبِ الشَّمس. وهذا يعني في الحالتين أنَّهُ يَسيرُ بِقَوسٍ من المَشْرِقِ إلى المَغْرِبِ باتِّجَاهِ الكواكبِ الخارجيةِ وأقْمَارِهَا أي المريخ ـ والمشتري ـ وزحل… ولمَّا كانت نهايةُ اللَّوحِ مُهَشَّمَةً فإنَّهُ يَصِلُ إلى جَبَلٍ غَريبِ الهَيئَةِ يُعْتَبَرُ بالنسبةِ لنا مفاجئاً.
واللَّوحُ التاسعُ متضرِّرٌ بصفَةٍ عامَّةٍ بقَدَرِ السّطورِ المفقودةِ فيه حيثُ يقَدِّرُ طه باقر الأسْطُرَ التالفةَ من العمودِ الأوَّلِ بما لا يَقِلُّ عن (32) سطراً حيثُ قَالَ خلالَ الترجمَةِ:
(ثمَّ بَلَغَ جلجامشُ جَبَلاً عظيماً) والعبارةُ هذِهِ لباقرَ.
ثمَّ قَالَ: (هنا انخرامٌ بِنَحْوِ 32 سطراً يدِلُّ ما بَقِيَ مِنْهُ أنَّ جلجامشَ بَلَغَ الجِبَالَ التي سيأتي وَصْفُهَا).
(وكانَ اسمُ الجَّبَل ماشو) هذِهِ هي أوَّلُ عبارَةٍ من العمودِ الثاني، وعليهِ فالجُزْءُ المُهَشَّمُ يَتَضَمَّنُ وَصْفَاً مُسهِبَاً لكيفيةِ وصولِهِ إلى الجَّبَل ماشو وإلى أشياءٍ أخرى يَصْعُبُ التَكَهُّنُ بها.
أما قَبْلَ ذلكَ فَقَدْ حَدَثَتْ معركةٌ ما مَعَ أجسامٍ تَسْتَخْدِمُ الإضاءَةَ أو الأَشِعَّةَ!. وهذا يَدِلُّ دلالةً كافيةً على تَشَابهِ الرحلتين الأولى والثانيةِ بَيْدَ أنَّهُم تَرْجَموهَا إلى (الأُسودِ) وأنَّ جلجامشَ رآها في حِلْمٍ وهي تَمْرَحُ فاسْتَلَّ سيفَهُ وانقَضَّ عليها وجَعَلَهَا تَفِرُّ مِنْهُ!.
هذِهِ هي الترجمَةُ:
رأيتُ الأُسودَ فَتَمَلَّكَني الرُّعْبُ
رَفَعْتُ رأسي إلى (سينَ) وصلَّيْتُ لَهُ
وفي المساءِ أضْطَجَع فأيقظَهُ حِلْمٌ رَآهُ
رأى (الأُسودَ) حَوْلَهُ تَمْرَحُ مَسْرورةً
في ضوءِ سينٍ (القمر)
رَفَعَ فأسَهُ بيدِهِ واستَلَّ سيفَهُ من غَمْدِهِ
وانقَضَّ عليهِم كالسَّهْمِ
فَضَرَبَهَا وجَعَلَهَا تَفِرُّ مِنْهُ
ولكنَّنا لا نَجِدُ أصلاً لمِثْلِ هذِهِ الترجمَةِ في النصِّ. فالسَّطْرُ (13) لم يَبْقَ مِنْهُ سوى مفردتان: (فاستلقى ـ خائفاً) وما بَعْدَهُ فيه مفردتان: (فَرِحينَ بالحياة) والذي يليه هو: (أَخَذَ فأساً في يدِهِ)… وأذن فالهجومُ لا يُعْلَمُ إنْ كانَ على ما سَمُّوهُ (الأسودِ) أو على غيرِهَا مَعَ افتِرَاضِ صِحَّةِ الترجمَةِ لبقيَّةِ المفرداتِ.
يَدِلُّ على ذلكَ أنَّ (الأُسودَ) المذكورةَ لم تُقْتَلْ، بل (كُسِّرَتْ)، وهو اللفظُ الذي أثْبَتَهُ الأحمدُ في ترجمتِهِ بالرغم من أنَّ لَفْظَ (بارارو) عِندَهُ بثلاثةِ معانٍ هي: (قَتَلَ ـ كَسَرَ ـ هَشَّمَ).
وبِصِفَةٍ عامَّةٍ يَنْبَغي لَنَا ألا نُسَلِّمَ أنَّهُ الآنَ في البريةِ أو الصحراءِ حيثُ الأسود والوحوش لمجرَّدِ أنَّنَا يمكنُ أنْ نُتَرْجِمَ بقايا العمودِ إلى جُمَلٍ مُحْكَمَةٍ تُعْجِبُنَا!.
فلا تُوجَدُ في النصِّ العبارَةُ (جَعَلَهَا تفِرُّ مِنْهُ)، وكلُّ ما بقيَ في السَّطْرِ الثامِنِ عَشَر هو الفِعْلُ (بارارو) وَقَدْ وَقَعَ كاحتمالٍ على ضميرِ الجماعةِ. والناتجُ هو (كسَّرَهُم). فكيْفَ إذا كانَ المعنى الدقيقُ هو (تَلاشَتْ) ويَعُودُ إلى حُزَمِ الإضاءةِ؟.
وأمَّا بقيَّةُ المُفْرَداتِ فهي متفرِّقَةٌ مِثْلُ:
(أكْمَلَهَا، رَمَى، اسم السابق، اسم الثاني، رفع إلى، الرب، ثمانية وعشرون) ثمَّ لا تَظْهَرُ أيَّةُ سُطورٍ واضحَةٍ إلى حدِّ 32 سطراً فينتهي العمودُ الثاني المُمْكِنُ القراءةِ وأوله: (إنَّ اسمَ الجَّبَل ماشو).
فلنحاوِلَ الآنَ بالاعتمادِ على هذا العمودِ إثباتَ نتيجتين: الأولى: إنَّ جَبَلَ (ماشو) هذا هو نَفْسُ جَبَلِ (قاف) المذكورِ كهَدَفٍ أوليٍّ أو محطَّةِ انطلاقٍ أولى لذي القرْنَينِ.
الثانية: إنَّ هذا الجَّبَل هو نَفْسُ (الجَّبَل المُحيطِ) الذي يذْكُرُهُ الإمامُ عليٌّ (ع) خلالَ شَرْحِهِ لرحلةَِ ذي القرْنَينِ والذي هو جَبَلُ الفيضِ المغناطيسيِّ بحقليهِ الشامِخَيْنِ.
وقَبْلَ ذلكَ لا بُدَّ للقارئِ الكريمِ من ضَبْطِ ما ذَكَرْنَاهُ عن تِلْكَ النصوصِ في أوَّلِ هذا الفَصْلِ إذ يأتي هنا تطبيقُ نتائِجِهَا. وتَسْتَنِدُ هذِهِ النتائجُ إلى أوجِهِ التشابهِ اللفظيِّ ومعانيَّ المفرداتِ وحَرَكَةِ الشخوصِ وإجاباتِهِم والى اتِّفاقِ هذا التصَوُّرِ عن الجَّبَل مَعَ التصوُّرِ العلميِّ للمغناطيسيَةِ الأرضيةِ. وتَتَرَكَّزُ تِلْكَ الأوْجُهُ بالنقاطِ الآتيةِ:
1ـ التشابهُ في وصْفِ الجَّبَل:
لو رَجَعْتَ إلى نصِّ الإمامِ عليٍّ (ع) الذي يَذْكُرُهُ العياشيُّ في آخر صفحات تفسيرِهِ الروائيِّ المفقود إلاَّ هذا الجزء لوَجَدْتَهُ يَصِفُ الجَّبَل بأوصافٍ لا تَنْطَبِقُ على الجِبَالِ المعروفة، بل تَتَّفِقُ فَقَطْ مَعَ (الرواسيَّ) المذكورة ِفي القرآنِ والتي يُقْصَدُ بها كَمَا رأينا من قَبْلُ خطوطَ الفيضِ المغناطيسيِّ الشامخاتِ والتي هي كالجِبَال في مظهرِهَا الخارجي كَمَا في الرَّسْمِ المُرْفَقِ في آخِرِ الكتابِ.
فَقَدْ قَالَ النصُّ: (وهو أوَّلُ جَبَلٍ أسَّسَهُ اللهُ تَعالى وهو مُحيطٌ بالأرضِ كلِّها وأعلاه في السَّمَاء الدُّنْيَا).
أمَّا في النصِّ البابليِّ فَقَدْ وَصَفَ الخطوطَ على أنَّها مجموعةُ جِبَالٍ لا جبلاً واحداً ـ أو جبلاً واحداً ذا قُمَمٍ عديدةٍ ـ حسب ما نَقْتَرِحُهُ للترجُمَةِ لأَنَّهُ عَدَلَ من المُفْرَدِ إلى الجَمْعِ فجأةً وأَعْطَاهُ نَفْسَ الوَصْفِ كَمَا في البيت الرابع:
وقُمَمُهُم تَصِلُ أطْرَافَ السَّمَاء
وقَالَ الإمامُ عليٌّ(ع):
(وأَسْفَلُهُ في الأرضِ السابعةَ ِالسُّفْلى)
وقَالَتْ المَلْحَمَة:
ومِنَ الأَسْفَلِ بَلَغَت صدورُهُم العَالَمَ الأسْفَلَ
لكنَّ هذا العدولَّ بالصيغِة هو ترجمَةُ الأحمدَ أما باقرُ فأبقاهُ مُفْرَدَاً قَالَ:
وهو الجَّبَل الذي تَبْلُغُ أعاليهِ قُبَّةَ السَّمَاء
وفي الأسْفَلِ ينْزِلُ صدْرُهُ إلى العالَمِ الأسْفَلِ
وبالطبعِ فإنَّ هذا وصفٌ دقيقٌ في المَلْحَمَة، والنصُّ العلويُّ هو عن خطوطِ الفيضِ كَمَا ذَكَرْنَا لأنَّها شامخةٌ بالفعلِ وداخِلَةٌ في الأسْفَلِ إلى قَلْبِ الأرضِ المغناطيسيَّ.
ولكنْ.. لماذا اخْتَلَفَتْ الترجُمَةُ بَيْنَ المُفْرَدِ والجَمْعِ؟ وأيُّهُما أصَحُّ من الأُخرى؟
الحقُّ إنَّ الترجمَتَيْنِ تجاوزَتَا النصَّ. فليسَ الأصلُ كَمَا ذَكَرَ باقِرُ (قُمَّتُهُ) إذ ألغى صِيغَةَ الجَّمْعِ، ولا هي كَمَا قَالَ الأحمدُ (قُمَمُهُم) إذ جَمَعَ الجَّبَل نَفْسَهُ مَعَ أنَّهُ مُفْرَدٌ في النصِّ.
تَكْمِنُ الترجُمَةُ الصحيحةُ في التصوُّرِ العلميِّ نَفْسِهِ. فالجَّبَلُ واحِدٌ ولكنَّهُ مُكَوَّنٌ من مجموعةِ خطوطٍ (رواسي)، كلُّ خَطٍّ لَهُ قُمَّةٌ. وبالتالي فإنَّ ضميرَ الجماعةِ الذي هو (شونو) لا يمكنُ جَعْلُهُ مُفْرَدَاً كَمَا فَعَلَ باقِرُ ولا يمكنُ إرجاعُهُ إلى الجَّبَل مباشرةً ليكون (جبالاً) بالجمعِ، بل يعوُد على الجَّبَل مَعَ إبقاءِهِ مُفْرَداً ـ أي أنَّ الترجُمَةَ ليست (قُمَّتُهُ)، ولا قُمَمِ الجبال (قُمَمُهُم)، بل (قُمَمُهُ). فهو جَبَلٌ واحِدٌ وله قُمَمٌ عديدةٌ.
والذي دَعَاهم لهذينِ التأويلينِ هو صعوبَةُ اعتبارِ الجَّبَل واحداً والقُمَمُ عديدةً. ولكنْ.. هذا هو الجَّبَل المغناطيسيُّ خلافاً للجِبَالِ المعروفةِ. لاحِظْ النصَّ الأصليَّ:
أي ـ لو ـ شو ـ نو ـ شو ـ يو ـ أوك شامي ـ كا
أيلو: قُمَّةُ.
شونو: ضميرُ الجماعَةِ المذكَّرُ الثالِثُ.
هكذا قَالَ الأحمدُ. فالناتجُ عنْدَهُ (قُمَمُهم)؟ بالرغمِ مِنْ أنَّ (شو) هو ضميرُ المفردِ الغائبِ (الثالثِ) كَمَا في ترجمة البيت (9)/ص207. أما (نو) فأداةُ جَمْعٍ.
ومعلومٌ أن أداةَ الجَمْعِ لا تَجْمَعُ المفردَةَ الموجودَةَ في البيتِ السابِقِ (جَبَل)، بل تجمعُ المفردَةَ المجاورِةَ واللفظَ المرتبطةَ به وهو (آيلو) فتصبَحُ على الجَمْعِ (قُمَمٌ) بدلاً من قُمَّةٍ، وتبقى عائديةُ هذِهِ القُمَمِ للجَبَلِ المُفْرَدِ.
وإذن.. فقولُهُ (قُمَمُهُم) هو غيرُ دقيقٍ، إنَّمَا هي (قُمَمُهُ).
ويمكنُ وضعُهَا كصيغَةٍ مستقلَّةٍ على النَحْوِ الآتي:
آيلو ـ شو ـ نو
قمة ـ هو ـ هم (ضمير الجماعة)
فإذا قُلْتَ: (قُمَمُهُم) أبْطَلْتَ عَمَلَ (شو)، وإذا قُلْتَ: (قُمَّتُهُ) أبْطَلْتَ عَمَلَ (نو). والصحيحُ هو (قُمَمُهُ)، فَيَعْمَلُ (نو) للجَمْعِ، ويَعْمَلُ (شو) لإعادةِ المفردَةِ إلى الجَّبَل المفرَدِ.
وعلى ذلكَ فإنَّ أولى أوصَافِ الجَّبَل من الأعلى والأَسْفَلِ واحتواءَهُ على مجموعةِ قُمَمٍ قَدْ تطابقتْ بصورةٍ تامَّةٍ بَيْنَ نصِّ المَلْحَمَة ونصِّ الإمامِ عن ذي القرْنَينِ.
ب- التَّشَابِهُ في عَمَلِ حارِس الجَّبَل:
لَقَدْ ذَكَرَ نصٌّ آخرٌ عن ذي القرْنَينِ عَمَلَ المَلِكِ المُوَكَّلِ بهذا الجَّبَل حيثُ ذَكَرَ أنَّ عَمَلَهُ هو الأشْرَافُ على تَعَاقُبِ اللَّيل والنَّهَار.
وَقَدْ ذَكَرْنَا هذا النصَّ في ما سَبَقَ حيثُ تَضَمَّنَ حَديثاً عن الجماعَةِ التي ارْتَقَتْ على السحابَتَيْنِ في العَهْدِ النبويِّ. فبِدَلالَةِ الارتِبَاطِ مَعَ حديثِ الجَّبَلِ المُحيطِ المَذكورِ سابِقَاً نَعْلَمُ أنَّ الجَّبَلَ المُحيطَ هو نَْفسُهُ جَبَلُ (قافٍ) في الرِّوايَةِ الثانيةِ، وإنَّهُ مُرْتَبِطٌ بعمليةِ تَعَاُقِب اللَّيلِ والنَّهَارِ. ففي اللَّحْظَة التي تَصِلُ فيها الجماعةُ إلى مَشَارِِفِ هذا الجَّبَلِ يَسْأَلُ المُتَحَدِّثُ الوليَّ قائِدَ الرحلةِ عن الجَّبَلِ وشَأْنِهِ وعن المَلَكِ الموكّلِ به، فيُجيبُ قائِلاً:
(إنَّ هذا المَلَكَ الذي وَكَّلَهُ اللهُ تعالى بظُلْمَةِ اللَّيلِ وضوءِ النَّهَارِ ولا يزولُ إلى يَومِ القِيامَةِ).
وَقَدْ ذَكَرْنَا مَصْدَرَ الحَديثِ فيما سَبَقَ في كِتَابِ البُرْهَانِ مرفوعاً إلى أبن عباس عن طريقِ مجاهدٍ من تفسيرِ سُورَةِ الكَهْفِ، وهو النصُّ الذي تَضَمَّنَ رؤيتَهُم الأرضَ من السَّمَاء وهي كالدِرْهَمِ.
ومَرَّةً أخرى أَطْلُبُ من السادَةِ الذين يعتقدونَ بخرافيةِ هذا النصِّ إبداءَ التفسيرَ المعقولَ لأسبقيةِ الكَشْفِ عن العِلاقَةِ بَيْنَ الفيضِ المغناطيسيِّ والحَرَكَةِ المحوريَّةِ للأرضِ التي يَنْتِجُ منها تَعَاقُبُ اللَّيلِ والنَّهَار. فهذِهِ العلاقَةُ المُؤَكَّدَةُ عِلميَّاً تَجْعَلُ النصَّ نصَّاً علمياً من الدرجةِ الأولى يَجِبُ التَّوقُفُ عندَهُ.
الاختلافُ الوحيدُ هو أنَّ العِلْمَ الحَديثَ لم يَحْسُمْ طبيعةَ هذِهِ العلاقَةِ إلى الآن خاصَّةً في اليابان وألمانيا. فهناك فريقانِ: الأوَّلُ يَقولُ إنَّ اللَّفَ المحوريَّ للأرضِ ناشئٌ عن المغناطيسيةِ، والآخَرُ يَقولُ العَكْسَ وهو إنَّ المغناطيسيةَ ناشئَةٌ عن اللَّفِ المحوريِّ.
والآن.. إذا رَجَعْنَا للملحمةِ البابِليَّة وَجَدْنَا نَفْسَ التَعْليلِ ونَفْسَ العَمَلِ لهذا الجَّبَلِ المسمَّى في المَلْحَمَة (ماشو):
إنَّ الجَّبَلَ اسمُهُ ماشو
وحينما بَلَغَ الجَّبَلَ ماشو
الذي يُرَاقِبُ مَطْلَعَ الشَّمسِ
ومَغْرِبَ الشَّمسِ كُلَّ يومٍ
(وقُمَمُهُ) تَصِلُ إلى أطرافِ السَّمَاءِ
وأسْفَلُهُ يَنْزِلُ صَدْرُهُ إلى العَالَمِ الأسْفَلِ
إذن.. فالجَّبَلُ المغناطيسيُّ هو الذي يَتَحَكَّمُ بعمليةِ تَعَاقُبِ اللَّيل والنَّهَار لأَنَّهُ مرتَبِطٌ بدورانِ الأرضِ حَوْلَ محورِهَا.. وهذا بِغَضِّ النَّظَرِ عن دِقَّةِ الترجُمَةِ لمُفْرَدَةِ (يُراقِبُ). وبالطبْعِ فإنَّ خطوطَ الفيضِ المغناطيسيِّ داخلةٌ في قَلبِ الأرضِ السَّفلي علميَّاً.
أرجو الآنَ من القارئِ الكريمِ مُلاحَظَةَ الرَّسْمِ المُرْفَقِ في آخِرِ هذا الكتابِ للحَقْلِ المغناطيسيِّ وخطوطِ الفيضِ، حيثُ سيلاحِظُ ما يلي:
ö أنَّ شَكْلَ هذِهِ الخطوطِ مَعَ حقولِ الفَيْضِ يمكنُ أنْ تُشَبَّهَ بالنِّسْرِ أو العنكبوتِ أو العَقْرَبِ. وَقَدْ يمكنُ تشبيهُ الصُّورةِ بالمَحَارةِ ذاتِ الصَّدفتينِ.
ö أنَّ هناك حقلانِ متقابلانِ للفَيْضِ هما مِثْلُ قُمَّتينِ لجبلينِ اشْتَرَكَا في الوَسَطِ.
بينما الظِّلُ الأبْعَدُ وهو الحَقْلُ المُشْتَرَكُ فيبدو وكأنَّهُ قُمَّةٌ واحدَةٌ. وهناك حُقولٌ صُغْرَى وكُبْرَى فرعيَّةٌ. وبالطبعِ فإنَّ التوضيحَ العلميَّ للحَقْلِ المغناطيسيِّ هو أَمْرٌ شديدُ التعقيدِ وليست لَهُ ضرورةً كُبْرَى للقارئِ في هذا البَحْثِ وإنْ كانَ يَكْشِفُ عن المَزيدِ من الدلالاتِ اللفظيَّةِ للنصِّ القرآنيِّ والملحمَةِ والمأثورِ.
لَقَدْ أختارَ النصُّ القرآنيُّ عِبَارَةَ (الصَّدْفينِ) للإشارةِ إلى الحَقْلَينِ، بينما اختارَتْ المَلْحَمَة عبارَةَ (التوأمينِ) كَمَا سنرى. أمَّا من حيثُ الشَّكْلِ فَقَدْ انطوى النصُّ القرآنيُّ على الشَّكْلِ لأنَّ المَحَارَةَ كَمَا تَعْلَمُ فيها خطوطٌ بخاصَّةٍ إذا كانَ الصَّدْفان بمعنى (غِشَاءِ الدُّرَةِ) لا الصَّدفةِ الصَلِبَةِ، وهو ما ذَكَرَتْهُ بَعْضُ التفاسيرِ والمعاجِمِ كَمَا في تفسيرِ (أنوارِ التنزيلِ) للبيضاوي.
ö أنَّ هناك تَقَابُلاً للحقولِ الخارجيَّةِ والفرعيَّةِ وهي على شَكْلِ توائمٍ أو أزْوَاجٍ. وَكَمَا تُلاحِظُ فإنَّها متقابلةٌ من حيثُ الشَّحْنَةِ أيضاً. فَكُلُّ حَقْلٍ سَالِبٍ يُقَابِلُهُ حَقْلٌ مُوجَبٌ وهو على ما يدَّعي العالم الألماني (وولتر) شُحِنَتْ به الدقائقُ الملقاةُ كَفَيْضٍ من الإلكتروناتِ السالبَةِ والبروتوناتِ الموجبةِ الآتيةِ من السَّمَاء كَمَا توضِّحُهُ الصورةُ.
ومن هنا نَعْلَمُ سَبَبَ التعبيرِ القرآنيِّ عَنْهَا في موضِعينِ بـ (الإلقاءِ)، حيثُ قَالَ:
(وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (النحل:15)
لَقَدْ أَحْسَنَ طه باقر حينما قَالَ تعليقاً عن اسمِ الجَّبَل ماشو ما نِصُّهُ: (لا يُعْلَمُ بالضَّبْطِ أصْلُ هذا اللَّفْظِ، فإذا كانَ بابلياً فَيُحْتَمَلُ أنَّهُ يعني (التوأمين)...) ـ 129.
وهذا يعني أنَّ المَلْحَمَة قَدْ أكَّدَتْ خَصَائِصَ المغناطيسيةِ الأرضيةِ في أكْثَرِ مفرداتِهَا المستخْدَمَةِ مِثْلَمَا أشَاَرْت إلى عَمَلِهَا المُرْتَبِطِ بالدَّورانِ المحوريِّ للأرْضِ.
لكنَّ التعليقَ النهائيَّ لباقِرَ اتَّسَمَ بالعشوائيةِ حينما قَالَ مُضِيفَاً: (ولَعَلَّ هذا إشارةٌ إلى تَصَوُّرِ العراقيينَ القدماءَ لجِبَالِ لبنانَ الشرقيَّةِ والغربيَّةِ)!!.
أَقُوْلُ: ليسَ العراقيُّ القديمُ من السذاجَةِ بحيثُ يتحَدَّثُ عن جَبَلٍ واحِدٍ بصيغَةِ المُفْرَدِ (حيثُ إبقاهُ باقِرُ مُفْرَدَاً كَمَا رأيتَ)، ويقولُ أنَّهُ يَحْرِسُ مَطْلَعَ الشَّمسِ ومَغْرِبَ الشَّمسِ وأنَّ حُرَّاسَهُ (الرجالَ العقارِبَ حسب الترجمَةِ) كائناتٌ مُرْعِبَةٌ وأنَّ قُمَّتَهُ تبَلِْغُ السَّمَاءَ وأسفَلَهُ يَنْزِلُ إلى قلبِ العالَمِ الأسْفَلِ.. وبَعْدَ ذلكَ كُلِّهِ يقولُ المترجِمُ لعلَّ ذلكَ هو تصوُّرُهُم عن جِبَالِ لبنانَ الشرقيَّةِ والغربيَّةِ!.
فما هي علاقَةُ جِبَالِ لبنانَ بكلِّ تِلْكَ الخصائصِ الغريبةِ والمُرْتَبِطَةِ بأمورٍ كونيةٍ وفُلكيَّةٍ؟.
لكنَّ لَفْظَ (ماشو) لَهُ من جِهَةٍ أخرى دلالةٌ هامَّةٌ إذا افتَرَضْنَا أنَّهُ مُرْتَبِطٌ بالمشيِّ والمُمَاشاةِ في العربيَّةِ.
فالمشيُ لَفْظٌ يُطَابِقُ الحَرَكَةَ التي تُؤَدَّي فيه والتي هي اقترانُ حَرَكَةِ الرِّجْلِ بالرِّجْلِ الأُخرى. فهو يَنْطَوي ضمنياً على وجودِ زوجينِ أو توأمينِ.
لَقَدْ عَبَّرَ المأثورُ عن هذا الجَّبَل باسم (قاف). وهو لفظٌ مرتبطٌ بالاقتفاءِ فهو أيضاً حركةٌ اقترانيَّةٌ بَيْنَ اثنينِ بَيْدَ أنَّهُ عامٌّ جداً. فكلُّ خَطٍّ يقفوَ الخَطَّ الآخرَ، وكلُّ حَقْلٍ يقفوَ الحَقْلَ الآخرَ خلالَ الدورانِ المحوريِّ للأرضِ. والجَّبَلُ بكاملِهِ يقفو حركةَ الأرضِ المحوريَِّةِ، ويقفوها وهي بحركةِ الدوران حولَ الشَّمس، إذ يُحْتَمَلُ وجودُ علاقةٍ بَيْنَ الحركتينِ وإنْ كانَ العِلْمُ لا يستطيعُ البتَّ بهذِهِ المسألةِ الآنَ.
على أنَّ حَرْفَ (قاف) في اللغةِ العربيةِ مُشابِهٌ جداً لخطوطِ الفَيْضِ من حيثُ الرَّسمِ والشَّكْلِ.
ج-التَّشَابِهُ في وَصْفِ حارِس الجَّبَلِ:
يمكنُنَا الاعتقادُ أنَّ الحارِسَ في كلٍّ من الروايَةِ والملحمَةِ هو نَفْسُ الشخصيَّةِ.
ذلكَ لأَنَّهُ يُجيبُ بإجاباتٍ متشابهَةٍ ويعتَرِضُ بنَفْسِ الاعتراضاتِ على جلجامشَ أو ذي القرْنَينِ. ولكنْ قَبْلَ التفصيلِ نُحَاوِلُ التَّعَرُّفَ على مدى الدِّقَّةِ في ترجُمَةِ الأبياتِ المتعلِّقَةِ بحارِسِ الجَّبَلِ. فَقَدْ تَرْجَمَ طه باقرُ النصَّ إلى ما يلي:
ويَحْرِسُ بابَهُ الرِّجَالُ العقارِبُ
الذينَ يَبْعَثونَ الرُّعْبَ والهَلَعَ ونَظَرَاتُهُم الموتُ
ويَطْغَى جَلالُهُم على الجِّبَالِ
الذينَ يَحْرِسونَ الشَّمسَ في شِروقِهَا وغروبِهَا
أمَّا الأحمدُ فكانت ترجمَتُهُ كَمَا يلي:
ويَحْرِسُ بابَهَا الرِّجَالُ العقارِبُ
الذينَ رِهْبَتُهُم مُخيفَةٌ ونَظْرَتُهُم هي الموتُ
والذينَ يَطْغَى جَلالُهُم المُرْعِبُ على الجِّبَالِ
ويَحْرِسونَ الشَّمس عِنْدَ مَشْرِقِ الشَّمسِ ومَغْرِبِ الشَّمسِ
أمَّا ما يتعلَّقُ بهذِهِ الفقَرَةِ من النصِّ الروائي للإمامِ عليٍّ (ع) فهو:
(وإذا نَحْنُ بِمَلَكٍ يَدُهُ في المَغْرِبِ والأخرى في المَشْرِقِ، فَلمَّا نَظَرَ المَلِكُ إليه (إلى عَلِيٍّ بنَ أَبِي طالبٍ) قَالَ: أَشْهَدُ أنْ لا إلهَ ألا اللهَ وأشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسولُهُ ثمَّ قَالَ للريحِ اهبطي ممَّا يلي هذا الجَّبَلَ وأشار إلى جَبَلٍ شامخ في العلوِّ)
أمّا ما يتعلَّقُ بها من رواية الجَّبَل المُحيطِ فهو من قوله:
(وإذا بملك قابض على الجَّبَل....الخ) ـ وَقَدْ مَرَّ سابقاً.
وأوَّلُ شيءٍ نُلاحِظُهُ هنا أنَّ الحارِسَ واحِدٌ في الروايَةِ. ولكنْ في المَلْحَمَة هناك جماعةٌ يحرِسونَ في الجَّبَل.
لكنَّ الواقِعَ أنَّ المترجِمِيْنَ جَمَعُوا اللَّفظَ المُفْرَدَ من دونِمَا سَبَبٍ واضِحٍ. فالنصُّ الأصليُّ مَعَ ما يقابِلُهُ من العربيةِ هو كالآتي:
أقرابو ـ أميلو أي ناصاروا بابي شو
عَقْرَبُ رَجُلْ يحرِسونَ باب ـ هو
إذن.. فقولُهُم (عقارب) على الجَمْعِ مخالِفٌ للأصلِ الذي وَرَدَ فيه اللفظُ بالمُفْرَدِ ورُبَّمَا اضطَرَّهُم إليه وجودُ فِعْلٍ للجماعَةِ هو (يَحْرِسونَ). وبالطَّبْعِ لا تمكنُهُم إضافتُهُ إلاَّ لرَجُلٍِ وعَقْرَبٍ فقَالَوا: (رجالٌ عقاربٌ)!!.
ومِنْ جِهَةٍ أخرى قَالَ الأحمدُ: (بابَها) بدلاً من (بابِهِ)، ولا يُعْلَمُ وَجْهُ هذا التأنيثِ ولِمَنْ يَعودُ ضَميرُ المؤنَّثِ فالجَّبَلُ مذكَّرٌ؟.
والحقيقةُ أنَّ هناك التباساً في تصوّرِ تركيبِ الجُمْلَةِ. فالجَمْعُ موجودٌ ولكنَّهُ لا يمكنُ أن يؤديَ إلى جَمْعِ المُفرداتِ السابقَةِ (وهي رَجُلٌ وعَقْرَبٌ) في آنٍ واحِدٍ.
وسَبَبُ ذلكَ هو جُمودُ المترجمين على المعنى المُسْتَخْلَصِ عندهم لكلِّ لفظٍ. فإنَّ مُفردَةَ (أميلو) تعني (رَجُلٌ)، ولكنِّي أَسْأَلُ: (أليسَ هذا اللفظُ عِنْدَ كَسْرِ الرَّاء سيعني شيئاً آخرَ هو (رِجْلٌ) والتي معناها إحدى رِجْلَي الإنسانِ أو الحيوانِ أو الكرسيِّ سواءً بسواءٍ؟!.
وإذا كانَ هذا يصحُّ في العربيةِ، فَلِمَ لا يَصِحُّ في كلِّ لغةٍ من لغاتِ الأرضِ؟
أفَليسَ مِنَ المُحْتَمَلِ أنْ يكونَ الجَمْعُ لأحَدِ اللفظينِ فَقَطْ دونَ الآخرِ بحيثُ يكونُ هو (رِجْلَ العقارِبِ) أو العَقْرَبَ ذا الأرجُلِ الكثيرةِ؟. وبالتالي يَبْقَى الإِفْرَادُ في أوَّلِ الجُمْلَةِ مَعَ صيغةِ الجَمْعِ للفِعْلِ في آخِرِهَا وتكونُ الجُمْلَةُ كالآتي:
(الذي يَحْرِسُ بابَهُ أرْجُلُ العَقْرَبِ)
ذلكَ لأَنَّهُ حينما شَبَّهَ الحَقْلَ بكامِلِهِ بالعَقْرَبِ وهو تَشبيهٌ دقيقٌ للغايةِ، فإنَّ خطوطَ الفَيضِ أَصْبَحَتْ بمثابَةِ الأرْجُلِ.
هذا إذا سَلَّمْنَا بترجمَةِ كافَّةِ الألفاظِ على ما ذَكَرُوهُ وألاَّ فإنَّ اللغةَ موسَّعَةٌ في الاستعمالِ دوماً. فلَعَلَّ اللفظَ (أميلو) مُشتَقٌّ أصلاً من الامتلاكِ وَقَدْ أُطْلِقَ على الرَّجُلِ وسُمِّيَّ به لأَنَّهُ مالِكٌ لأمْرِهِ ومالِكٌ لأمْرِ أُسرتِهِ. وبالتالي يكونُ المعنى هو ذاتَهُ في (المَلَكِ القابِضِ على الجَّبَل) في الروايَةِ.
وكَذلِكَ لفظ (اقرابو) فلَعَلَّهُ يفيدُ الاقترابَ والمَيْلَ، أو يكونُ اللفظُ (أميلو) ذا علاقَةٍ بـ (الميلِ) والذي فَسَّرَ البيضاويُّ بِهِ عبارَةَ (الصَّدفين) القرآنيةِ. ومعلومٌ أنَّهُ مرتَبِطٌ بالميلِ الأرضيِّ الذي تَتَحَكَّمُ فيه القوَّةُ المغناطيسيَّةُ.
لَقَدْ تَكَلَّمَ هذا الرجُلُ (الرَّجُلُ العَقربُ) مَعَ مَنْ سَمَّاهُ المترجمون (زوجَتَهُ)، واللفظُ الأصليُّ له هو (سينيشتي) والذي يعني (زوجاً) أو (مُقابِلاً) أو (النصفَ الآخرَ).
ولكنَّهُم أضافوا إليه التأنيثَ من عِنْدِهِم لاعتقادِهِم أنَّ (أميلو) هو رَجُلٌ وبالتالي فإنَّ زوجُهُ لا بُدَّ أنْ يكونَ امرأةً.
لكنَّ النصَّ استخْدَمَ نَفْسَ العلاماتِ للزوجينِ فلَمْ يُؤَنِّثْ الزوجَ الآخرَ. وهذا يدِلُّ على مُرادِ النصِّ. فهناك توأمانِ أو زوجانِ متقابلان ليسا من الذَكَرِ والأنثى، وإنَّمَا من بابِ النصْفِ والنصْفِ الآخرَ أو الموجَبِ والسالِبِ أو الحَقْلِ الأيمنِ والأيسرِ.
وهنا تَظْهَرُ العلاقةُ مَعَ النصِّ الروائي الذي استَخْدَمَ الأيدي بَدَلَ الأرْجُل إذا صَحَّتْ فرضيتُنَا بكونِهِ (عقرباً ذا أرْجُلٍ)، إذ قَالَ النصُّ:
(يَدُهُ في المَغْرِبِ والأخرى في المَشْرِقِ)
فهو يُؤَدِّي نَفْسَ الوظيفَةِ حيثُ هو (مُوكَّلٌ بظُلْمَةِ اللَّيلِ وضوءِ النَّهَارِ) ـ البرهان ـ 489 ـ م2. وفي المَلْحَمَة:
(يحرس الشَّمسَ عِنْدَ مَغْرِبِ الشَّمسِ وعِنْدَ مشْرِقِ الشَّمسِ)/9 ـ ع2.
فالمشْرِقُ ابتداءُ ضوءِ النَّهَار، ومغْرِبُ الشَّمسِ لا يعني سوى ظُلْمَة اللَّيلِ.
د-التَّشَابِهُ في ردودِ فِعْلِ الحَارِسِ:
في المَلْحَمَةِ البابِليَّةِ يقولُ حارِسُ الجَّبَلِ لجلجامشَ:
لماذا لَزمْتَ الطريقَ البعيدَ؟
ولماذا وصَلْتَ أمامي؟
اختَرَقْتَ البِحَارَ الشَّاقَةَ العبور
أما النصُّ الروائيُّ فيقولُ المَلَكُ لذي القرْنَينِ: (ما الذي قَوَّاكَ يا بْنَ آدَمَ أنْ تَبْلغَ هذا الموضعَ الذي لم يبلغْهُ أحَدٌ من قبْلِكَ مِنْ ولْدِ آدم من الأنبياءِ والمُرْسَلين؟)
ومِنْ جِهَةٍ أخرى قَالَ حارِسُ الجَّبَل لجلجامشَ إنَّ أحَداً لم يَبلغْ هذا الموضِعَ من قَبْل:
لا يُوجَدُ إنسانٌ يَسْتَطِيعُ ذلكَ يا جلجامشُ
لم يَعْبُرْ أَحَدٌ من البَشَرِ مَسْلِكَ الجَّبَلِ
فكذلكَ يُحَذِّرُ المَلَكُ ذا القرْنَينِ من سلوكِ الظُّلْمَة في وَقْتٍ نُلاحِظُ فيه التَحْذيرَ من حارِس الجَّبَلِ لجلجامشَ:
أن داخلَهَا يمْتَّدُ اثنتي عشرة ساعة مضاعفةً
والظِّلامُ حَالِكٌ ولا يُوجَدُ نورٌ
ولكن النصَّ البابليَّ يَنْخَرِمُ هنا أيضاً حيثُ يُحْتَمَلُ أنَّ الحارِسَ أستمَرَّ في وصْفِ عَقَبَاتِ الرحلةِ.